فصل: (الفصل الثاني) فيمن أبيح له التيمم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


الباب الرابع‏:‏‏)‏ ‏(‏في المسح الذي هو بدل من الغسل‏)‏

وفيه فصلان

الفصل الأول‏:‏ في المسح على الجبائر

قال في الكتاب‏:‏ يمسح عليها، فإن ترك ذلك أعاد الصلاة أبدا خلافا ح في قوله بعدم الإعادة؛ لأن المسح لا يجب عنده لاقتضاء القرآن الغسل، والزيادة على النص نسخ عنده، ونسخ القرآن بخبر الواحد ممتنع إجماعا، وقال بمسح الخفين لوصول أحاديثه إلى التواتر عنده، فأمكن النسخ‏.‏

احتج أصحابنا بما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ انكسرت إحدى زندي، فأمرني عليه السلام أن أمسح على الجبائر قال عبد الحق‏:‏ وهو غير صحيح‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ والأحاديث في هذا الباب واهية، فنعدل إلى القياس على الخفين بجامع الضرورة، وبطريق الأولى لمزيد الشدة، ويؤكد هذا القياس ما في أبي داود أنه عليه السلام بعث سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب، والتساخين قال أبو عبيد‏:‏ العصائب العمائم، والتساخين الخفاف، وإذا جاز المسح لضرورة البرد، فأولى الجراح‏.‏

قال صاحب الطراز‏:‏ ولا فرق في المذهب بين ترك الجبيرة، أو بعضها، وقال بعض الشافعية‏:‏ يجزئ أقل ما يقع عليه الاسم على أصلهم في مسح الرأس‏.‏

حجتنا‏:‏ أن العضو كان يجب استيعابه، والأصل بقاء ما كان على ما كان ولأن الأصل في ذمته بيقين، والأصل عدم براءته بما ذكره الخصم من الطهارة‏.‏

سؤال‏:‏ مسح الخف، والتيمم بدلان من الغسل، ولا يجب تعميمها في مواضع الغسل لجواز الاقتصار على أعلى الخفين، والكوعين في التيمم‏.‏

جوابه‏:‏ الفرق بين الجبيرة، والخفين أنها لا يجوز المسح عليها مع القدرة على الغسل بخلاف الخفين، وبينها، وبين التيمم أنه عبادة مستقلة بدل عن أصل الغسل، والوضوء لا بدل عن أجزائهما، فالوضوء، والغسل لم يهجرا بل هما مطلوبان، فوجبت العناية بمراعاة أجزائهما، والتيمم، فقد أعراض الطهارتين، فلا يراعى فيه أجزاؤهما‏.‏

فروع ستة‏:‏

الأول‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا كان الجنب ينكب الماء عن جرحه، أو شجته غسل ذلك الموضع إذا صح، فإن لم يغسل حتى صلى صلوات كثيرة، وهو في موضع لا يصيبه الوضوء أعاد صلاته من حين قدر على مسه بالماء كاللمعة‏.‏

قال صاحب الطراز‏:‏ يريد في غسل جسده لا أنه لا يمسحها، فإذا صح غسل الموضع الذي كان يمسح عليه كالخف إذا نزعه إلا أن يبرأ الجرح، وهو على وضوئه الأول، كما إذا نزع خفه، وهو على وضوئه الأول‏.‏

فإن كانت الشجة في رأسه ومسحها للوضوء لا يجزئه المسح عن الجنابة‏.‏

وهذا الفرع يدل على أن الجنابة تجزئ بنية الوضوء لأنهما فرضان، فأجزأ أحدهما عن الآخر كالحيض مع الجنابة‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ فإن اغتسل لجنابته أعاد حين الغسل‏.‏

قال‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ يعيد الموضع إذا تركه ناسيا فقط، والمتأول، والعامد يعيدان الغسل‏.‏

سؤال‏:‏ تنوب نية الوضوء عن نية الجنابة، ولا تنوب نية التيمم للوضوء عن نية التيمم للغسل إذا نسيه، وإن كان بدلا من الوضوء فرضا كالجنابة، ونقل صاحب الطراز في ذلك خلافا‏.‏

جوابه‏:‏ أن التيمم عن الوضوء بدل الوضوء، وهو بعض الغسل، والتيمم عن الجنابة بدل عن غسل جميع الجسد، وبدل البعض لا يقوم مقام الكل، والوضوء، والغسل أصلان في لمعة الجبيرة متساويان فيها بإجزاء أحدهما عن الآخر‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ يمسح على الدواء، والمرارة على الظفر، والقرطاس على الصدغ للضرورة‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ولا يشترط في ذلك أن يكون الغسل متلفا بل لمجرد الضرورة، أو خوف زيادة المرض، أو تأخير البرء خلافا ش في اشتراطه التلف‏.‏

الثالث‏:‏ لو سقطت الجبيرة قبل البرء، أو حلها للتداوي‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إن قدر أن يمسح نفس الجرح وجب، وإلا رد الجبيرة في حينه، ومسح عليها، فإن احتاجت المداواة إلى طول، فهل يعيدها، أو يبني على قصده، وهو ظاهر المذهب، ويتخرج فيها الخلاف الذي في ناسي بعض طهارته، ثم ذكره بحيث لا ماء، وطال عليه طلبه للماء، أو هريق ماؤه من غير تفريط، وطال ذلك‏.‏

قال‏:‏ فإن كانت الجبيرة في ذراعه، فمسح عليها لم يعد ما بعدها؛ لأن الترتيب قد وقع في وضوئه أولا، واتصف بالكمال بخلاف من نسي بعض طهارته، ولا فرق بين سقوط الجبيرة، والعصابة العليا التي عليها المسح كالخف الأعلى إذا نزعه‏.‏

الرابع‏:‏ إذا كثرت الخرق قال عبد الحق عن بعض شيوخه‏:‏ إن أمكن المسح على السفلى لا يمسح على العليا‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ يجزئ، ويتخرج ذلك على لبس خف على خف لأنه إذا انتقل الفرض للجبيرة لا يجب محل مخصوص بل الإمرار باليد‏.‏

فرع مرتب‏:‏ من الطراز‏:‏ إذا قلنا لا يمسح إلا على أقل ما يمكن لا يمسح على الكثيف المستغنى عنه، وهذا الكلام في الارتفاع، وأما العرض فلا يجوز أن يؤخذ من الموضع السالم إلا ما كان من ضرورة شده، وكذلك العصابة إن أمكن حلها من غير ضرر حلها، ومسح على الجرح إن تعذرت مباشرته بالمسح‏.‏

الخامس‏:‏ قال في الطراز‏:‏ لا يعيد ما صلى بالمسح على الجبيرة خلافا ش قياسا على ما صلى بالتيمم، والخفين، وصلاة المريض، والخائف، ولأن القضاء بأمر جديد، والأصل عدمه‏.‏

وهذا الخلاف مبني على أن الطهارة هل هي شرط في المسح على الجبيرة أم لا، فعند الشافعي هي شرط محتجا بحديث أبي داود قال‏:‏ خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا شجة في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه على تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا ما نجد لك رخصة في التيمم، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال‏:‏ ‏(‏قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا، وإنما شفاء الغى السؤال، وإنما كان يكفيه أن يتيمم، ويشد على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده‏)‏‏.‏

وجوابه‏:‏ أن التيمم لو كان طهارة لم يحتج إلى الغسل لأنا لا نعني بالطهارة إلا ما أزال المانع الشرعي، ولأن الجمع بين طهارتين خلاف قواعد الشرع في الأحداث فيتعين حمل الحديث على حالتين حتى يكون معناه إنما كان يكفيه أن يتيمم إن عجز عن استعمال الماء، ويشد على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده إن أمكنه استعمال الماء، ومثل هذا الإضمار مجمع على جوازه، وما ذكرتموه على خلاف القواعد غير مجمع عليه، وحمل كلام الشارع على موافقة قواعده، وطرد عوائده، وما أجمع عليه أولى مما ذكرتموه، ولأن الإجماع منعقد على جواز الصلاة بالمسح على الجبيرة، وإن ابتدأ لبسها على غير وضوء، وإنما الخلاف في الإعادة، وإذا ثبت الجواز بدون الطهارة لا تكون شرطا فيه‏.‏

وأما القياس على الخفين، فمندفع بفارق الضرورة، فإن الجرح يأتي بغير علم‏.‏

السادس‏:‏ في الجواهر‏:‏ إذا كان الموضع لا يمكن وضع شيء عليه، ولا ملاقاته بالماء، فإن كان في موضع التيمم، ولا يمكن مسه بالتراب وجب تركه، فلا غسل، ولا مسح لأنه المقدور، وإن لم يكن في أعضاء التيمم، فثلاثة أقوال التيمم ليأتي بطهارة تامة، والغسل ترجيحا للأصل، والجمع بينهما احتياطا‏.‏

فائدتان‏:‏

الأولى‏:‏ إيقاع الطهارة في غير محل الحدث عبث لكنه جاز على الجبائر، والخفاف لمسيس الحاجة لهذه الأمور ليلا يعتاد المكلف ترك المسح، والغسل فيثقلا عليه عند إمكانهما‏.‏

الثانية‏:‏ يفرق الفصل من الجسد‏:‏ إن كان في الرأس قيل له شجة، أو في الجلد قيل له خدش، أو فيه، وفي اللحم قيل له جرح، والقريب العهد الذي لم يفتح يقال له خراج، فإن فتح قيل له قرح، أو في العظم قيل له كسر، أو في العصب عرضا قيل له بتر، وطولا قيل له شق، وإن كان عدده كثيرا سمي شدخا، أو في الأوردة، والشرايين قيل له انفجار، وهذه الفائدة محتاج إليها في قول الجلاب، والتهذيب من كانت له شجاج، أو جراح، أو قروح فيعلم الفرق بينها في اللغة‏.‏

‏(‏الفصل الثاني‏)‏ ‏(‏في المسح على الخفين‏)‏

والكلام في حكمه، وشروطه، وكيفيته‏.‏

أما حكمه، فثلاثة أقوال‏.‏ قال في الكتاب‏:‏ يمسح المسافر، والمقيم، ثم قال‏:‏ لا يمسح المقيم، وهذا اللفظ يقتضي أنه رجع عن الأول وقال في المجموعة‏:‏ إني لأقول اليوم مقالة ما قلتها قط قد أقام عليه الصلاة والسلام بالمدينة عشر سنين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي في خلافتهم، وذلك خمس وثلاثون سنة، فلم يرهم أحد يمسحون، وإنما كانت الأحاديث بالقول، وكتاب الله أحق أن يتبع، ويعمل به‏.‏

وقال في النوادر‏:‏ لا أمسح في سفر، ولا حضر قال ابن وهب فيها‏:‏ آخر ما فارقته عليه المسح في السفر، والحضر قال صاحب الاستذكار، والمازري‏:‏ ينبغي أن يحمل قوله بالمنع على الإطلاق على الكراهة في خاصة نفسه كالفطر في السفر جائز، والأفضل تركه، وقد يترك العالم ما يفتي بجوازه، فقد قال الحسن البصري‏:‏ حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين، وأخبار المسح قد وردت في الصحاح إلا أن يقال‏:‏ نزلت المائدة بعدها كما يزعم جماعة لكن في مسلم، وأبي داود عن جرير قال‏:‏ رأيته عليه السلام بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه قال إبراهيم‏:‏ كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد المائدة قال الترمذي‏:‏ قبل موته عليه السلام بيسير‏.‏

ويدل على جوازه في الحضر قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأرجلكم‏)‏ بالخفض إذا حملناه على المسح على الخفين، وما ورد في الحديث أنه ‏(‏أتى سباطة قوم، فبال قائما، ومسح على خفيه‏)‏ والبساطة المزبلة، وهي من خواص الحضر، وفي مسلم أنه وقت للحاضر يوما، وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، والتوقيت فرع الجواز، ووجه التفرقة بين المسافر، والمقيم أن المشقة إنما تعظم في نزع الخف في السفر لفوات الرفاق، وقطع المسافات مع تكرار الصلوات، ولا يرد عليه سفر البحر؛ لأن التعليل لجنس السفر، ولأن الغالب السفر في البر، فكان سفر البحر تبعا له، ولأن الطهارة مشابهة للصلاة لكونها شرطها، ولإبطال الحدث لهما، ورخصة القصر في الصلاة تختص بالسفر، فكذلك الطهارة، فتكون رخصة في عبادة تختص بالسفر أصله الصوم‏.‏

فروع ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إذا قلنا لا يمسح إلا المسافر فيشترط في السفر الإباحة قياسا على القصر، والفطر، ولأن الرخص لا تستباح بالمعاصي‏.‏

وإذا قلنا يمسح الحاضر، والمسافر، فهل يمسح العاصي بسفره قولان، والصحيح المسح؛ لأن عدم الاختصاص يصير طرديا في الرخصة‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ ليس للمسح توقيت خلافا ح، وش قال صاحب الطراز‏:‏ روى أشهب عنه يمسح المسافر ثلاثة أيام، وهذا القول إنما ينسب إليه في كتاب السر الذي بعثه إلى الرشيد، والأصحاب ينكرونه، فقال فيه على زعم الناقل‏:‏ يمسح المقيم يوما، وليلة، والمسافر ثلاثة أيام‏.‏

وفي مسلم‏:‏ رخص لنا عليه السلام إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، ولياليهن من غائط، وبول إلا من جنابة، ولأن الأصل الغسل بالقرآن، فلا يترك إلا لدليل معلوم راجح عليه‏.‏

ووجه المذهب ما رواه سحنون في الكتاب عن عامر الجهني قال‏:‏ قدمت على عمر من فتح الشام، وعلي خفاي، فنظر إليهما، فقال‏:‏ كم لك منذ لم تنزعهما، فقلت لبستهما يوم الجمعة، واليوم الجمعة ثمان، فقال‏:‏ أصبت، وروي أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو لبست الخفين، ورجلاي طاهرتان، وأنا على وضوء لم أبال أن لا أنزعهما حتى أبلغ العراق، وأقضي سفري، ولأن التوقيت ينافي أصول الطهارات، فإنها دائرة مع أسبابها لا مع أزمانها، وإذا تقابلت الأخبار بقي معنا النظر‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ قال ابن مهدي، وابن معين‏:‏ حديثان لا أصل لهما، ولا يصحان حديث التوقيت، وحديث التسليمتين في الصلاة‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ وروي عن علي رضي الله عنه إنكار المسح أصلا، وأن المائدة متأخرة عن المسح، وفي أبي داود عن أبي عمارة أنه قال‏:‏ يا رسول الله أمسح على الخفين قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ يوما قال‏:‏ ‏(‏ويومين‏)‏ قال‏:‏ وثلاثا قال‏:‏ ‏(‏نعم، وما شئت‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ في سنده اختلاف‏.‏

الثالث‏:‏ إذا فرعنا على رواية أشهب، ومسح المقيم، ثم سافر قبل تمام مدته هل يبني على ذلك مدة المسافر أم لا‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ويتخرج على المسافر إذا صلى ركعتين، ثم نوى الإقامة هل يبني عليها صلاة المقيم أم لا، وقال الشافعي‏:‏ ينزع بعد يوم، وليلة، وقال أبو حنيفة‏:‏ يقيم مدة المسافر‏.‏

وأما شروطه، فعشرة‏:‏

وهي أن يكون جلدا طاهرا مخروزا ساترا لمحل الفرض، ويمكن متابعة المشي فيه لذوي المروءة لبس على طهارة بالماء كاملة، وأن يكون لابسه حلالا غير مرفه‏.‏

فالأول‏:‏ احتراز من الخرق، ونحوها، فإنها ليست خفا للعرب، ولا تعم الحاجة إليها، ولا وردت بها الرخصة‏.‏

الثاني‏:‏ احتراز من جلد الميتة، فإن الصلاة بالنجس لا تجوز، ولأنه ليس المعتاد الذي وردت فيه السنة، وتدعو إليه الضرورة‏.‏

الثالث‏:‏ احتراز من المربوط لما تقدم‏.‏

الرابع‏:‏ في الجواهر‏:‏ احتراز مما دون الكعبين، فإنه اقتصر عليه، فقد قصر البدل عن المبدل، والأصل المساواة بينهما، وإن غسل ما بقي جمع بين البدل، والمبدل، وذلك لا يجوز؛ لأن البدل هو المشروع سادا مسد المبدل‏.‏

قال صاحب الطراز‏:‏ وروى الوليد بن مسلم عن مالك - رحمه الله - في المحرم يمسح على الخفين إذا قطعهما دون الكعبين، ويمر الماء على ما بدا قال الباجي‏:‏ والذي قال هذا إنما هو الأوزاعي، وهو كثير الرواية، فلعله وهم، ولعل ذلك يخرج على قول مالك في أن غسل الكعبين غير واجب‏.‏

فرع‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إذا قطع الخف إلى فوق الكعبين، ثم خرج عن موضع الغسل فإن كان ذلك لا يرى منه القدم جاز المسح، وهو متفق عليه بين المذاهب حتى قال الشافعي‏:‏ إن كان فيه شرج يفتح، ويغلق إن أغلق جاز المسح، وإن فتح غلقه بطل المسح‏.‏

الخامس‏:‏ احتراز من الواسع جدا، أو المقطوع قطعا فاحشا قال في الكتاب‏:‏ إن كان قليلا مسح، وإلا فلا، وتحديد الكثير بالعرف خلافا لأبي ح في تحديده بثلاثة أصابع، فإن المعلوم من عادة الناس أنهم لا يعزفون عن القطع اليسير لا سيما الصحابة رضي الله عنهم مع غزوهم، وكثرة أسفارهم، فكان الجواز في القليل معلوما، وأما من حده بغير العرف، فرواية المتقدمين ظهور القدم، أو جلها‏.‏

وحده البغداديون بإمكان المشي فيه، فراعى الأولون ظهور المبدل، والآخرون فقد الحاجة إلى اللبس، فإن شك في مجاوزة القطع للقدر المعفو عنه قال ابن حبيب‏:‏ لا يمسح؛ لأن الأصل الغسل‏.‏

السادس‏:‏ احتراز من المحدث لما في الموطأ أن عبد الله بن عمر سأل أباه رضي الله عنهما عن المسح على الخفين، فقال‏:‏ إذا أدخلت رجليك في الخف، وهما طاهرتان، فامسح عليهما، وروى المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ثم أهويت لأنزع خفيه يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، ومفهومه أنه لولا الطهارة لما جاز المسح قال صاحب الاستذكار‏:‏ أجمع الفقهاء على ذلك من حيث الجملة، وإن اختلفوا في تفسير الطهارة، وقال صاحب الطراز‏:‏ قال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ لا تشترط الطهارة حالة اللبس بل لو لبسهما محدثا، وأدخل الماء فيهما حتى عم رجليه صح، فالشرط عنده ورود الحدث، وهو لابسهما على طهارة قال‏:‏ إن اللبس عادة لا عبادة، والطهارة إنما تشترط في العبادات، وإنما يظهر حكم الطهارة في اللبس عند طرو الحدث، والرجل مكنونة في الخف، فلا يصادفها الحدث، وهذا تهويل ليس عليه تعويل، فإن الحدث ليس جسما يحجب بالخفاف، وإنما هو حكم شرعي متعلق بما دل النص على تعلقه به، ثم قال رضي الله عنه‏:‏ يشكل بأمرين‏:‏ أحدهما ظاهر قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أدخلتهما، وهما طاهرتان‏)‏ فعلل الطهارة بالمقارنة الثاني‏:‏ إذا كان اكتنان الرجل في الخف يمنع من وصول الحدث فينبغي إذا نزع الخف، أو الجبيرة لا يجب غسل الأعضاء المستورة بهما لعدم تعلق الحدث بها‏.‏

السابع‏:‏ احتراز من التيمم‏.‏ قاله في الكتاب، وقال أصبغ‏:‏ يمسح إذا لبسهما قبل الصلاة، فلو صلى بالتيمم، ثم لبسهما لا يمسح لانتفاض تيممه بتمام صلاته، والخلاف مبني على رفع الحدث، فأصبغ يراه، ومالك لا يراه‏.‏

تحقيق‏:‏ قد تقدم أن الحدث له معنيان‏:‏ الأسباب الموجبة كالريح، ونحوه، ولذلك يقال‏:‏ أحدث إذا وجد منه سبب منها، والثاني‏:‏ المنع الشرعي من الإقدام على الصلاة حتى يتطهر، وهو الذي تريده الفقهاء بقولهم‏:‏ ينوي في وضوئه رفع الحدث إذا تقرر هذا، فالتيمم يبيح إجماعا، ومع الإباحة لا منع فيكون الحدث قد ارتفع ضرورة فلا معنى لقولنا إنه لا يرفع الحدث‏.‏

وأما الاحتجاج بوجوب الغسل من الجنابة عند وجود الماء، فلا يستقيم لأنه يقتضي بقاء المنع مع الإباحة، فإن اجتماع الضدين محال عقلا، والشرع لا يرد بخلاف العقل، فإن كان الحدث مفسرا بغير ذلك فينبغي أن يبرز حتى نتكلم عليه بالرد، أو القبول، فإنا لا نجد غير هذين المعنيين‏.‏

الثامن‏:‏ احتراز من غسل إحدى الرجلين، وإدخالها في الخف قبل غسل الرجل الأخرى، فإنه لا يمسح حتى يخلع، ثم يلبسهما بعد كمال الطهارة خلافا لأبي ح، ومطرف من أصحابنا‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ عن مالك رضي الله عنه فيمن ليس معه من الماء إلا ما يتوضأ به، فغسل رجليه، ثم لبس خفيه، ثم أتم وضوءه قال‏:‏ أحب إلي أن يغسل رجليه بعد وضوئه، فإن لم يفعل، فلا شيء عليه، فالأصحاب يخرجون هذا الفرع بطريقين‏.‏ يبقى أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بانفراده أم لا يرتفع إلا بعد كمال الطهارة، فإن قلنا بالارتفاع، فمذهب مطرف، وإلا فمذهب مالك، وهي مفرعة على ما تقدم، فإن الحدث هو المنع الشرعي من الصلاة حتى يتطهر المحدث، وهو ممنوع قبل الكمال بالإجماع، فكيف يليق أن يقال‏:‏ الحدث يرتفع عن كل عضو بانفراده‏.‏

وما يظهر بعد هذه المقالة على التحقيق أنه لو كان معه من الماء ما يكفيه لبعض طهارته، وهو محدث، فإنه يتيمم، ولا يجب عليه استعمال ذلك الماء على الأصح، ولو كانت الطهارة تحصل في بعض الأعضاء يوجب استعماله في بعض الأعضاء كمن معه ما لا يكفيه لإزالة النجاسة إلا عن بعض أعضائه، فإنه يزيل منها بحسب الإمكان‏.‏

والطريق الأخرى أن المستديم للشيء هل يكون كالمبتدئ له كمن حلف لا يدخل الدار، وهو داخلها، أو لا يلبس الثوب، وهو لابسه أم لا يكون كذلك، وهو أصل مختلف فيه‏.‏

فرعان‏:‏

الأول‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ الشرط حصول الطهارة غسلا، أو وضوءا، وقال بعض المتأخرين‏:‏ لا يمسح على طهارة الغسل‏.‏

الثاني‏:‏ قال‏:‏ لو توضأ، ولبس خفيه، ثم ذكر لمعة في وجهه، أو يديه، فغسل ذلك وصلى، ثم أحدث لا يمسح على خفيه إلا أن يكون نزعهما بعد غسل اللمعة قبل أن يحدث، وعلى قول مطرف يمسح‏.‏

التاسع‏:‏ احتراز من المحرم، فإنه لا يجوز له لبس الخفين، فإن لبسهما لم يجز له المسح عليهما قال الباجي‏:‏ وعندي يجوز للمرأة المحرمة أن تمسح على الخفين لأنها ليست ممنوعة من لبسهما‏.‏

سؤال‏:‏ المحرم، والغاصب للخف كلاهما عاص باللبس، والغاصب إذا مسح صحت صلاته بخلاف المحرم، فما الفرق‏؟‏‏.‏

جوابه أن الغاصب يؤذن له في الصلاة بالمسح على الخفين في الجملة، وإنما أدركه التحريم من جهة الغصب، فأشبه المتوضئ بالماء المغصوب، والذابح بالسكين المغصوبة فيأثمان، وتصح أفعالهما، وأما المحرم، فلم يشرع له المسح ألبتة‏.‏

العاشر‏:‏ احتراز من المترفه قال في الكتاب‏:‏ إذا اختضبت المرأة بالحناء، وهي على غير وضوء، فلبست الخف، فتمسح عليه إذا أحدثت، أو الرجل يريد أن ينام، وهو على وضوء فيلبسه ليمسح إذا استيقظ لا يعجبني، وقاله ابن القاسم في المدونة في الذي يريد البول‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قال مالك في الواضحة‏:‏ يعيد أبدا، وقال ابن دينار، وأصبغ‏:‏ يكره ذلك، والصلاة تامة؛ لأن الخف لا يشترط في لبسه نية القربة، فلا يضره فيه الرفاهية‏.‏

حجة مالك - رحمة الله عليه - أن الخف إنما شرع لبسه للوضوء لا لمتعة اللبس، فلا تترك عزيمة غسل الرجلين لغير ضرورة‏.‏

وأما كيفية المسح، فقال في الكتاب‏:‏ يمسح ظهور الخفين، وبطونهما، ولا يتتبع غصونهما، وهي كسروهما، وينتهي إلى الكعبين مارا على العقبين من أسفل، ومن فوق، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يمسح أسفلهما، وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظهر خفيه، وروي أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان يمسح أعلى الخف، وأسفله وضعفه‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ وخالف ابن شعبان في غضون الخفين، والجبهة في التيمم‏.‏

حجة المذهب‏:‏ أن الغضون في حكم الباطن، والباطن ليس محلا للطهارة؛ لأن المسح مبني على التخفيف‏.‏

فروع اثنا عشر‏:‏

الأول‏:‏ قال سحنون في العتبية‏:‏ يمسح على المهاميز قال الباجي‏:‏ قال ابن مسلمة، وجماعة أصحابه‏:‏ لا يجب الإيعاب، والواجب عند الشافعي رضي الله عنه أقل ما ينطلق عليه الاسم، وعند أبي حنيفة ثلاثة أصابع، وعند ابن حنبل مسح أكثره‏.‏

حجتنا‏:‏ أن كل موضع صح فيه الفعل وجب إذ لو انتفى الوجوب لما صح أصله الساق، وإذا كان الوجوب متقررا في آخر العضو وجب إيعابه كسائر أعضاء الوضوء‏.‏

الثاني‏:‏ صفة المسح في الكتاب وضع اليد اليمنى على أطراف أصابع الرجل من ظهرها، واليسرى تحت أصابعها مارا بهما إلى موضع الوضوء قياسا على الوضوء لأنه بدله‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ وقيل عكسه، وعند ابن عبد الحكم‏:‏ اليمنى على حالتها، واليسرى يبدأ بها من العقب إلى الأصابع ليسلم من آثار العقب، وهو قول الشافعي‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قال بعض الأصحاب‏:‏ ظاهر الكتاب يقتضي جعل اليمنى على أعلى اليسرى، ويفعل في اليسرى كذلك، وهو وهم، فإن الإشارة إلى البداية فقط لقول مالك في الواضحة‏:‏ يجعل اليمنى تحت اليسرى، واليسرى من فوقها لأنه أمكن في مسحها‏.‏

الثالث‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ لا يجزئ مسح الباطن عن الظاهر، ولا العكس لكن الاقتصار على الظاهر يوجب الإعادة في الوقت، وقال سحنون‏:‏ لا يعيد مطلقا‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ وقوله لا يجزئ يحتمل في الفعل، وفي الحكم، وهو قول ابن نافع، ويعيد عنده أبدا، وهو أقعد بأصل مالك؛ لأن الخف بدل فيثبت له حكم مبدله، ولأنه لو انخرق باطنه خرقا فاحشا لا يمسح عليه‏.‏

والمذهب مبني على أن الحكم انتقل إلى الخف من حيث هو خف كالتيمم لا يراعى فيه مواضع الوضوء، ولا الغسل، فلو اقتصر على الأسفل قال‏:‏ لا يجزئه على المشهور، وقال أشهب‏:‏ يجزئه‏.‏

فرع مرتب‏:‏ قال‏:‏ إذا قلنا يعيد في الوقت قال ابن أبي زيد‏:‏ يعيد الوضوء لعدم الموالاة، ويتخرج فيه قول بإعادة أسفله وحده‏.‏

الرابع‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ يزيل الطين من أسفل الخف ليصادفه المسح، فلو مسح الطين، أو غسله ليمسح الخف، ثم نسي لم يجزه، ويعيد الصلاة لعدم نية الطهارة قاله صاحب الطراز، فلو غسل بنية الوضوء قال ابن حبيب‏:‏ يجزئه، ويستحب له الإعادة ليأتي بالمشروع غير تابع‏.‏

الخامس‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا لبس خفين على خفين مسح الأعلى، وروى ابن وهب المنع‏.‏

حجة الأول‏:‏ أن الأحاديث وردت من غير استفصال، ولأن الضرورة كما تدعو الخف الواحد تدعو الخفين قال اللخمي‏:‏ والخلاف إنما هو في لبسهما عقيب غسل، أما لو لبس الأول عقيب غسل، والثاني بعد مسح، فإنه يجوز قولا واحدا‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ينبغي العكس‏.‏

وحجة المنع أن الخف الأعلى إن كان بدلا من الأسفل لزم أن يكون للبدل بدل، وهو غير معهود، أو من الرجل فيلزم ألا يعيد المسح على الأسفل إذا نزع الأعلى‏.‏

السادس‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا مسح على خفيه، ثم لبس أخرى بعد المسح مسح على الأخرى لقيام مسح الخف مقام غسل الرجل في رفع الحدث، وقال بعض الشافعية‏:‏ لا يمسح؛ لأن المسح لا يرفع الحدث لوجوب الغسل عند النزع، فلا يقوم مقام الغسل كالتيمم، وفرق بين هذه المسألة، ولبسهما بعد الغسل؛ لأن الغسل يرفع الحدث‏.‏

السابع‏:‏ قال ابن القاسم في الكتاب‏:‏ إذا مسح الأعلى، ثم نزعه مسح الأسفل، وأجزأه خلافا ح، فإن أخر ذلك أعاد الوضوء كالذي يفرق وضوءه، ورأى أبو حنيفة أن الخفين شيء واحد بدل من الرجل، فإذا لم تظهر بقي حكم المسح، وفرق بين الخفين، والجرموقين، وقال‏:‏ يمسح الخف إذا نزع الجرموق الأعلى لاختلاف الجنس، ويؤيد قوله من مسح رأسه، ثم حلق شعره لا يعيد مسحا‏.‏

حجتنا‏:‏ القياس على من نزع الخف عن الرجل، وعلى الجبائر‏.‏

قال صاحب الطراز‏:‏ وأما نزع خفه بعد المسح، فثلاثة أقوال‏:‏ الغسل لمالك، والوضوء له أيضا، ولا يتوضأ، ولا يغسل للحسن‏.‏

حجة المشهور انتقال حكم المسح للرجل، والرجل لا تمسح، فتغسل، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أدخلت رجليك في الخف، وهما طاهرتان، فامسح عليهما ما شئت، وما بدا لك ما لم تخلعهما، أو تصيبك جنابة‏)‏‏.‏

فاشترط عدم النزع، والقياس على نزع العصائب‏.‏

حجة الوضوء أن المسح رفع الحدث، فإذا نزع تجدد الحدث، وهو لا يتبعض لأنا لا نجد شيئا ينقض الوضوء في عضو دون غيره فيعم فيجب الوضوء، ويرد عليه أن النزع ليس بحدث بل الحدث هو ما سلف، وقد عمل بموجبه إلا غسل الرجل أبدل بالمسح، فإذا ذهب المسح أكملت الطهارة بالغسل‏.‏

حجة الثالث القياس على حلق الرأس‏.‏

فإذا قلنا‏:‏ يمسح على الأسفل، فنزع فردا من الأعلين‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يمسح تلك الرجل على الأسفل، وقال سحنون، وابن حبيب‏:‏ ينزع الأخرى، ويمسح الأسفلين‏.‏

حجة ابن القاسم أن الملبوس باق على حكم البداية، والقياس على ما إذا لبس ابتداء على إحدى رجليه خفين، وعلى رجل خفا، والفرق بين هذه، وبين خلع أحد الخفين المنفردين أن الخف باق على البدلية، وهناك بالخلع بطلت البدلية بسبب الغسل في إحدى الرجلين إذ لا يجمع بينهما‏.‏

حجة سحنون أن الطهارة لا تتبعض في الانتقاض، والخفاف كالشيء الواحد فيبطل فيهما كما لو كانا على الرجلين‏.‏

وإذا قلنا يمسح ما تحت المنزوع، فمسح، ثم لبس المنزوع قال ابن القاسم في العتبية‏:‏ يمسح عليه، ولا يشترط أن يزيد على الرجل الأخرى خفا آخر، فإن البدلية قد حصلت بستر الرجلين بجنس الخف‏.‏

الثامن‏:‏ في الجلاب‏:‏ إذا كان على كل رجل خف، فنزع إحدى الرجلين نزع الأخرى، وغسل لئلا يجمع البدل، والمبدل، وقال القاضي في الإشراف عن أصبغ‏:‏ يمسح اللابسة، ويغسل المنزوعة‏.‏

التاسع‏:‏ لو تعسر نزع الخف الباقي قال عبد الحق عن بعض الشيوخ‏:‏ إنه يغسل المنزوعة، ويمسح الأخرى على ذلك الخف حفظا لمالية الخف، وقياسا على الجبيرة، ونقل عن بعض البغداديين منع الإجزاء لتعذر المشي على هذه الهيئة‏.‏

‏.‏ قال ابن شاس‏:‏ وينتقل إلى التيمم، واستحسنه صاحب الطراز، وقيل‏:‏ يمزق الخف ترجيحا لجانب العبادة على المالية‏.‏

العاشر‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ كان مالك يقول‏:‏ يمسح على الجرموقين أسفلهما جلد يبلغ موضع الوضوء مخروز، ثم رجع عن ذلك‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ والجرموقان على ظاهر الكتاب الجوربان المجلدان قال ابن حبيب‏:‏ هما الخفان الغليظان لا ساق لهما، وهذا الذي قاله ابن حبيب هو المعروف، ونقل ابن بشير هما خف على خف فيكون فيهما ثلاثة أقوال‏.‏

حجة الجواز ما رواه الترمذي أنه عليه السلام توضأ، ومسح على الجرموقين، والنعلين، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وجماعة من السلف، ووجهة الثاني أن القرآن اقتضى الغسل، فلا يخرج عنه إلا بمتواتر مثله، وهذه الأحاديث لم يخرجها أحد ممن اشترط الصحة، وقد ضعفها أبو داود بخلاف أحاديث الخفين، فإنها متواترة، ولأنها بمنزلة اللفائف، واللفائف لا يمسح عليها‏.‏

وأما ما يروى عن السلف، فمحمول على المجلدين، ويتخرج هذا الخلاف أيضا في القاعدة الأصولية، وهي أن الرخص إذا وقعت على خلاف الأصل هل يلحق بها ما في معناها للعلة الجامعة بينهما، أو يغلب بالدليل الثاني للمترخص قولان‏.‏

الحادي عشر‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا تزحزحت رجلاه إلى ساق الخف نزعهما، وغسل رجليه، وإن خرج العقبان إلى الساق قليلا، والقدم على حالها، فردهما مسح؛ لأن الأول يعد خلعا لهما بخلاف الثاني‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إن كان بقصده أخرج عقبه خرج على رفض الطهارة، وإن كان بغير قصده فلا شيء عليه‏.‏

الثاني عشر‏:‏ في الجواهر‏:‏ يكره التكرار، والغسل فيهما، ويجزئ إن فعل‏.‏

وقد تقدم خلاف ابن حبيب في الغسل، وسبب الكراهة في التكرار أن الغسل مبني على التخفيف، والتكرار ينافيه، ولأن العمل في السنة على خلافه، وأما الغسل، فلأن المسح أول مراتب الغسل فيقع المأمور به تبعا، والأصل أن يكون مقصودا‏.‏

2الباب الخامس‏:‏‏)‏‏(‏في بدل الوضوء، والغسل، وهو التيمم‏)‏

وهو من خصائص هذه الأمة لطفا من الله تعالى بها، وإحسانا إليها، وليجمع لها في عبادتها بين التراب الذي هو مبدأ إيجادها، والماء الذي هو سبب استمرار حياتها إشعارا بأن هذه العبادة سبب الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية جعلنا الله تعالى من أهلها من غير محنة‏.‏

وهو في اللغة‏:‏ من الأم بفتح الهمزة، وهو القصد يقال‏:‏ أمه، وأممه، وتأممه إذا قصده، وأمه أيضا شجه في وسط رأسه‏.‏

ومن الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏)‏ أي لا تقصدوه، ثم نقل في الشرع للفعل المخصوص‏.‏

وأوجبه لتحصيل مصالح أوقات الصلوات قبل فواتها، ولولا ذلك لأمر عادم الماء بتأخير الصلاة حتى يجد الماء، وهذا يدل على أن اهتمام الشرع بمصالح الأوقات أعظم من اهتمامه بمصالح الطهارة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأي مصلحة في إيقاع الصلاة في وقتها دون ما قبله، وبعده مع جزم العقل باستواء أفراد الأزمان‏.‏

قلت‏:‏ اعتمد العلماء رضوان الله عليهم في ذلك على حرف واحد، وهو‏:‏ أنا استقرأنا عادة الله تعالى في شرعه، فوجدناه جالبا للمصالح، ودارئا للمفاسد، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إذا سمعت نداء الله تعالى، فارفع رأسك، فتجده إما يدعوك لخير، أو ليصرفك عن شر‏.‏

فمن ذلك إيجاب الزكوات، والنفقات لسد الخلات، وأروش الجنايات جبرا للمتلفات، وتحريم القتل، والزنا، والمسكر، والسرقة، والقذف صونا للنفوس، والأنساب، والعقول، والأموال، وإعراضا عن المفسدات، وغير ذلك من المصالح الدنيويات، والأخرويات، ونحن نعلم بالضرورة أن الملك إذا كان من عادته إكرام العلماء، وإهانة الجهلاء، ثم رأيناه خصص شخصا بالإكرام، ونحن لا نعرف حاله، فإنه يغلب على ظننا أنه عالم على جريان العادة، وكذلك ما تسميه الفقهاء بالتعبد معناه أنا لا نطلع على حكمته، وإن كنا نعتقد أن له حكمة، وليس معناه أنه لا حكمة له‏.‏

ولأجل هذه القاعدة أمر مالك - رحمه الله - بإعادة الصلاة في الوقت لترك السنن؛ لأن الإعادة حينئذ تحصل مصلحة الوقت، والسنة، ومجموعهما مهم بخلاف خارج الوقت لذهاب مصلحة الوقت، ولا يلزم من الاهتمام بمجموع مصلحتين الاهتمام بإحداهما‏.‏

ثم يبحث الفقهاء في هذا الباب في أسبابه، والذي يؤمر بالتيمم من هو، والذي يتيمم به وصفة التيمم، والمتيمم له، ووقت التيمم، والأحكام التابعة للتيمم، فهذه فصول سبعة‏.‏

‏(‏الفصل الأول‏)‏ ‏(‏في أسبابه

وهي ستة‏)‏

الأول‏:‏ عدم الوجدان للماء، وإنما يتحقق عند بذل الجهد في الطلب في حق من يمكنه استعماله، ويدل على وجوب الطلب إلى حين الصلاة أن الوضوء واجب إجماعا فيجب طلب الماء؛ لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وهو مقدور للمكلف، فهو واجب فيكون طلب الماء واجبا حتى يتبين العجز فيتيمم حينئذ، ولأن المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فلم تجدوا ماء‏)‏ أي بعد الطلب قال صاحب الطراز‏:‏ الطلب الواجب على قدر الوسع، والحالة الموجودة، فقد روى ابن القاسم في العتبية لا بأس بسؤال المسافر أصحابه الماء في موضع يكثر فيه أما موضع يعدم، فلا، وروى أشهب إنما يطلبه ممن يليه، ويرجوه، فليس عليه أن يطلب أربعين رجلا، وقال عبد الملك، وأصبغ، وابن عبد الحكم‏:‏ يطلب في الرفقة العظيمة ممن حوله، فإن لم يفعل، فقد أساء، ولا يعيد، وإن كانت الرفقة يسيرة، ولم يطلبه أعاد في الوقت إلا أن يكون الرجل، والرجلان، وشبههما، وهم متقاربون، فليعد أبدا لكثرة الرجاء‏.‏

وقالوا‏:‏ المرأة التي لا تخرج تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، ثم تخرج، فتطلب‏.‏

إذا تقرر هذا، ففي الجواهر أربع حالات‏:‏

إحداهما تحقق العدم حوله فيتيمم من غير طلب‏.‏

الثانية‏:‏ أن يتوهمه حوله، فليفحص، فحصا لا مشقة فيه، وهذا يختلف بحسب القوي، والضعيف، والرجل، والمرأة‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يعتقد قربه فيلزمه السعي له، وحد القرب عدم المشقة، وفوات الرفقة، وروي في كتاب محمد بن المواز من شق عليه نصف الميل، ف‏.‏ قال سحنون‏:‏ لا يعدل للميلين، وإن كان آمنا؛ لأن البعد يؤدي إلى خروج وقت الصلاة، وقال في الكتاب‏:‏ إذا غابت الشمس، وقد خرج من قرية يريد قرية أخرى، وهو غير مسافر إن طمع في الماء قبل مغيب الشفق مضى إليه، وإلا تيمم‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ هذا يقتضي أن وقت المغرب الاختياري إلى مغيب الشفق، وهو مذهبه في الموطأ، فإن التيمم لا يؤخر عن وقت الاختيار، ولو جاز ذلك لجاز بعد الشفق، فعلى القول بعدم امتداده لا يؤخر تيممه إلى الشفق‏.‏

قال التونسي‏:‏ ويتخرج فيها قول آخر بالتأخير إلى ما بعد الشفق لقوله‏:‏ ‏(‏في الحضر‏)‏ بخلاف إن رفع الماء من البئر، أو ذهب إلى النهر أنه لا يتيمم‏.‏

وكذلك خرجه ابن حبيب أيضا قال‏:‏ وهو عندي لا يصح لغلبة الماء في الحضر بخلاف الصحراء ما بين القريتين‏.‏

حجة المذهب قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فلم تجدوا ماء‏)‏، وهو يغلب على ظنه وجدانه، وروى مالك عن نافع قال‏:‏ أقبلت أنا، وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كنا بالمربد تيمم، فمسح وجهه، ويديه إلى المرفقين، ثم صلى، والمربد من المدينة على ميلين‏.‏

قال القاضي في التنبيهات‏:‏ الجرف بضم الجيم، والراء، والمربد بكسر الميم، والباء بواحدة من تحتها، ولأن التيمم إنما يشرع لتحصيل مصلحة الوقت‏.‏

قال سحنون‏:‏ لا يعدل الخارج من القرية إلى ميل، وكذلك المسافر يريد لا يخرج عن مقصده، وهو لا يخالف قول مالك، فإن قول مالك محمول على الذي يكون ذلك قصده‏.‏

الرابعة‏:‏ أن يكون الماء حاضرا لكن ليس له آلة توصل إليه، فإنه يتيمم لأنه، فاقد‏.‏

ولو وجده لكن إن اشتغل بالنزع خرج الوقت قال في الكتاب‏:‏ يعالجه عند المغاربة، وإن خرج الوقت، ويتيمم عند العراقيين، ولو كان بين يديه لكن لو استعمله خرج الوقت‏.‏ قال ابن شاس‏:‏ يستعمله عند المغاربة لأنه واجد، ويتيمم عند القاضي أبي محمد، وحكاه الأبهري رواية‏.‏

قال ابن يونس‏:‏ ولا فرق عندي بين تشاغله باستعماله، أو باستخراجه من البئر، فإن المقصود الصلاة في الوقت قال‏:‏ وكذلك قال ابن القصار، والقاضي عبد الوهاب، وفرق ابن القصار أيضا، فقال‏:‏ في الجمعة يتوضأ، ولو خاف فواتها؛ لأن الظهر هي الأصل، ووقتها باق، وسوى بينهما بعض الأصحاب بجامع الفريضة، وقال بعضهم‏:‏ يتيمم، ويعيد الصلاة احتياطا‏.‏

قال عبد الحق في النكت‏:‏ والفرق بين النزع من البئر، والاستعمال أن المستعمل واجد، والنازح فاقد، وإنما هو يتسبب ليجد‏.‏

فرعان‏:‏

الأول‏:‏ لو كان مع ثلاثة نفر قدر كفاية أحدهم ماء وأحدهم جنب، والآخر محدث، والثالث ميت‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ الحي أولى، وييمم الميت إلا أن يكون الماء للميت؛ لأن الحي يصلي بطهارته على الميت، وغيرها من الصلوات، والميت يصلى عليه بها فقط، ولأن حالة طهارة الحي تعود على الميت، وحال طهارة الميت لا تعود على الحي، فإن كان الماء للميت، واحتاج إليه الحي ليشربه أخذه، ويقوم بثمنه للوارث، وليس له دفع مثله إذا رجع إلى بلده، وإن كان الماء بينهما، فالحي أولى به، وقال القاضي‏:‏ الميت أولى به‏.‏

فعلى البحث الأول إذا كان مع رجل ما يغتسل به، ووجد جنبا، وميتا يكون الحي أولى بهبته من الميت خلافا ش في قوله‏:‏ إن المقصود من طهارة الميت النظافة، ولا تحصل إلا بالماء، وطهارة الحي المقصود منها الإباحة، والتيمم كاف في ذلك، ولأنه آخر عهده من الدنيا بالطهارة، والحي يتطهر بعد ذلك‏.‏

وجواب الأول أن المقصود بطهارة الميت الصلاة عليه، والنظافة تبع، ولهذا إذا لم يوجد الماء لا يصلى عليه حتى ييمم، وكذلك الشهيد لما لم يصل عليه لم يغسل‏.‏

وعن الثاني أن هذه الصلاة آخر عهده من الصلوات فينبغي أن تكمل‏.‏

والجنب أولى من المحدث لعموم منع الجنابة، ولأن الجنب مستعمل جملة الماء، والمحدث يترك بعضه بلا انتفاع‏.‏

وعلى هذا لو اجتمع جنب، وحائض هل تكون الحائض أولى لكونها تستفيد بالغسل أكثر من الجنب، أو يستويان‏؟‏ وهو الظاهر؛ لأن الغسل واحد بخلاف الوضوء، فإنه بعض الغسل للجنابة‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا كان معه ما يكفيه للوضوء، وهو جنب تيمم، ولا يتوضأ في أول تيممه، ولا ثانيه، ويغسل بذلك الماء النجاسة خلافا ش في أمره بالوضوء حتى يصير فاقدا للماء‏.‏

لنا‏:‏ أنه بدل، والبدل هو الذي شأنه أن يحل محل المبدل، ولا يجمع بينهما، والفرق بين صورة النزاع، والمسح على الخف في كونه يجمع بين مسحه، وغسل غيره أنه بدل عن غسل الرجلين لا عن المغسول، وبينها، وبين النجاسة أن الماء يطهر من الخبث كل موضع غسل به، ولو قل بخلاف المحدث لا تحصل طهارته إلا بجملة الغسل‏.‏

والفرق بين الغسل للجنابة، والتيمم للجنابة في كون الوضوء شرع مع الغسل دون التيمم أمران‏:‏

أحدهما أن الوضوء من جنس الغسل شرع بين يديه أهبة له كالمضمضة، والاستنشاق قبل الوضوء، والإقامة بين يدي الصلاة، والصدقة بين يدي النجوى، وهو ليس من جنس التيمم، فلا يشرع تهيؤا له‏.‏

وثانيهما أن أعضاء الوضوء أشرف الجسد لكونها موضع التقرب إلى الله، فكانت البداءة به أولى، والتيمم شرع في عضوين منها، فالوضوء يأتي عليهما، وعلى غيرهما، فلا معنى للبداية بالوضوء‏.‏

السبب الثاني‏:‏ في الجواهر‏:‏ الخوف من فوات النفس، أو عضو، أو منفعة، أو زيادة مرض، أو تأخر برء، أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه، وروى بعض البغداديين لا يتيمم لتوقع المرض، أو لزيادته، أو تأخر البرء، أو مجرد الألم، فلا يبيح التيمم لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن كنتم مرضى‏)‏، وما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص قال‏:‏ احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال‏:‏ يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب، فأخبرته الذي منعني من الاغتسال، وقلت سمعت الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما‏)‏، فضحك، ولم يقل شيئا، ولأن الفطر أبيح للمريض مع عدم الأذى، فهاهنا أولى، وخالفنا الشافعي - رحمه الله - في تأخير البرء، وحجتنا عليه أنه ضرر عليه فيكون منفيا قياسا على توقع المرض، ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏)‏‏.‏

قاعدة‏:‏ المشاق قسمان‏:‏

أحدهما لا تنفك عنه العبادة كالوضوء، والغسل في البرد، والصوم في النهار الأطول، والمخاطرة بالنفوس في الجهاد، ونحو ذلك لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنها قررت معه‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ تنفك العبادة عنه، وهو ثلاثة أنواع‏:‏

نوع في المرتبة العليا‏:‏ كالخوف على النفوس، والأعضاء، والمنافع، فهذا يوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا، والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثالها‏.‏

ونوع في المرتبة الدنيا‏:‏ كأذى وجع في أصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة، وخسة هذه المشقة‏.‏

النوع الثالث‏:‏ مشقة بين هذين النوعين، فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجب، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين له، فعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات‏.‏

تتميم‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ تختلف المشاق باختلاف رتب العبادات، فما كان في نظر الشرع أهم اشترط في إسقاطه أشد المشاق، أو أعمها، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم كما سقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أفضل العبادات بسبب التكرار كدم البراغيث، وثوب المرضع، وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء، أو الحاجة إليه، أو العجز عن استعماله، وما لم تعظم رتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة‏.‏

وجميع بحث هذه القاعدة يطرد في أبواب الفقه، فكما وجدت المشاق في الوضوء على ثلاثة أقسام متفق على اعتباره، ومتفق على عدم اعتباره، ومختلف فيه كذلك نجد في الصوم، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء، والمشي في الوحل، وغضب الحكام، وجوعهم المانع من استيفاء النظر، وغير ذلك، وكذلك الغرر، والجهالة في البيع ثلاثة أقسام‏.‏

سؤال‏:‏ ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها‏؟‏ فإنا إذا سألنا الفقهاء يقولون‏:‏ ذلك يرجع إلى العرف فيحيلون على غيرهم، ويقولون‏:‏ لا نحد ذلك، فلم يبق بعد الفقهاء إلا العوام، والعوام لا يصح تقليدهم في الدين‏؟‏‏.‏

جوابه‏:‏ هذا السؤال له وقع عند المحققين إن كان سهلا في بادي الرأي، ونحن نقول‏:‏ ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع؛ لأن التقريب خبر من التعطيل لما اعتبره الشرع، فنقول‏:‏ على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص، أو إجماع، أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة، أو أعلى جعله مسقطا، وإن كان أدنى لم يجعله‏.‏ مثاله‏:‏ التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب بن عجرة، فأي مرض آذى مثله، أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح الفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق‏.‏

سؤال آخر‏:‏ ما لا ضابط له، ولا تحديد وقع في الشرع على قسمين‏:‏ قسم اقتصر فيه على أقل ما تصدق عليه تلك الحقيقة كمن باع عبدا، واشترط أنه كاتب، يكفي في هذا الشرط مسمى الكتابة، ولا يحتاج إلى المهارة فيها في الوفاء بالشرط، وكذلك شروط السلم في سائر الأوصاف، وأنواع الحرف يقتصر على مسماها دون مرتبة معينة منها‏.‏

والقسم الآخر‏:‏ ما وقع مسقطا للعبادات لم يكتف الشرع في إسقاطها بمسمى تلك المشاق بل لكل عبادة مرتبة معينة من مشاقها المؤثرة في إسقاطها، فما الفرق بين العبادات، والمعاملات‏؟‏‏.‏

جوابه‏:‏ العبادات مشتملة على مصالح المعاد، ومواهب ذي الجلال، وسعادة الأبد السرمدية، فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة مع يساره احتمالها، ولذلك كان ترك الرخص في كثير من العبادات أولى، ولأن تعاطي العبادة مع المشقة أبلغ في إظهار الطاعة، وأبلغ في التقرب، ولذلك قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أفضل العبادة أحمزها‏)‏ أي أشقها، وقال‏:‏ أجرك على قدر نصبك‏.‏

وأما المعاملات، فتحصل مصالحها التي بذلت الأعواض فيها بمسمى حقائق الشروط بل التزام غير ذلك يؤدي إلى كثرة الخصام، ونشر الفساد، وإظهار العناد‏.‏

فروع ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إذا تيمم المريض من الجنابة، ثم أحدث حدث الوضوء، وهو قادر عليه لم يتوضأ؛ لأن الجنابة تسقط حكم الحدث الأصغر، ويتيمم لكل صلاة للجنابة‏.‏

الثاني‏:‏ قال‏:‏ إذا قدر المريض على الوضوء، والصلاة قائما، فحضرت الصلاة، وهو في عرقه، فخاف إن فعل ذلك انقطع عرقه، ودام عليه المرض قال مطرف، وعبد الملك، وأصبغ‏:‏ يتيمم، ويصلي إيماء للقبلة، وإن خرج الوقت قبل زوال عرقه لم يعد، وهذا موافق للمذهب لأنه تأخير البرء‏.‏

الثالث‏:‏ قال‏:‏ إذا عظمت بطنه حتى لا يتمكن من تناول الماء، أو أدركه الميد في البحر حتى لا يملك نفسه يتيمم لأنه وسعه‏.‏

السبب الثالث‏:‏ الجراح المانعة من استعمال الماء قال في الكتاب‏:‏ قيل لابن القاسم‏:‏ إذا عمته الجراح قال‏:‏ يتيمم قيل‏:‏ فأكثره جريح قال‏:‏ يغسل الصحيح، ويمسح الجريح قيل له‏:‏ لم يبق إلا يد، أو رجل صحيحة قال‏:‏ لا أحفظ عن مالك فيها شيئا، وأرى أن يتيمم، وقال ابن الجلاب‏:‏ من كانت به جراح في أكثر جسده، وهو جنب، أو في أكثر أعضاء وضوئه، وهو محدث يتيمم‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إن كان مراده أن الأكثر متفرق في الجسد منع مس السالم، فهو موافق لقول ابن القاسم، وإلا، فهو مخالف لمذهب الكتاب، وموافق لأبي حنيفة، فإن أصحاب الرأي يقولون‏:‏ إن كان أقله مجروحا جمع بين الماء، والتيمم، أو سالما كفاه التيمم، وعند الشافعي لا يكفي فيما صح إلا الغسل، وإن قل، وإذا مسح، وغسل يتيمم أيضا بناء على أصله فيمن وجد بعض كفايته من الماء، فإنه يستعمله لما في أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، فقال لأصحابه‏:‏ هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا لا نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال‏:‏ قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاه العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر، أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده‏.‏ يريد أن إحدى هاتين الحالتين تجزئه على حسب حال المجروح، ولا معنى للتيمم مع الغسل؛ لأن البدل، والمبدل منه لا يجتمعان‏.‏

فرع‏:‏ قال عبد الحق في النكت عن بعض الأصحاب‏:‏ إذا لم يبق منه إلا يد، أو رجل، فغسل الصحيح، ومسح الجراح لم يجزه لأنه لم يأت بالغسل، ولا يبدله الذي هو التيمم، ولو تحمل المشقة، وغسل الجميع أجزأه؛ لأن التيمم حقه، فإذا أسقطه سقط كمن صلى قائما مع مبيح الجلوس‏.‏

السبب الرابع‏:‏ غلاء الماء إن كان لا يجد الماء إلا بثمن، وهو قليل الدراهم يتيمم، أو كثيرها اشتراه ما لم يكثر الثمن فيتيمم‏.‏ أما الشراء فقياسا على الرفع من البئر، والطلب في الفلوات بجامع المشقة، وأما إذا كثر الثمن، فلا يشتريه لما فيه من المضرة، وليس في الكثير حد قال في المختصر‏:‏ ليس عليه أن يشتريه بأضعاف ثمنه إلا بثمنه، أو شبهه، وقال في المجموعة‏:‏ ليس عليه شراء القربة بعشرة دراهم قال ابن الجلاب‏:‏ يحتمل أن يحد بالثلث، واعتبر أصحاب الشافعي مطلق الزيادة‏.‏

فرع‏:‏ في الجواهر‏:‏ لو وهب له الماء لزمه قبوله عند القرويين لعدم المنة في مثل هذا، ولا يلزمه عند القاضي أبي بكر، وقيل‏:‏ إنما يلزمه قبول ثمن الماء، وقال ابن شاس‏:‏ يلزمه الماء قولا واحدا بخلاف الثمن‏.‏

السبب الخامس‏:‏ خوف العطش على نفسه قاله في الكتاب، وفي التفريع، وإن خافه على غيره، وكذلك قاله ش ح قال صاحب الكتاب‏:‏ يكفي ضرر العطش من غير تلف كالجبيرة، ولا فرق بين خوف العطش الآن، أو في المستقبل‏.‏

السبب السادس‏:‏ في الجواهر‏:‏ الخوف على النفس، أو المال من السارق، أو السبع، وقيل‏:‏ الخوف على المال لا يبيح‏.‏

‏(‏الفصل الثاني‏)‏ فيمن أبيح له التيمم

قال في الكتاب‏:‏ يتيمم الجنب، والمحدث الحدث الأصغر، وحكى ابن المنذر عن النخعي منع الجنب، وهو قول ابن عمر، وابن مسعود‏.‏

لنا عموم قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فلم تجدوا ماء‏)‏ الآية من غير تفصيل، وفي البخاري أنه عليه السلام رأى رجلا معتزلا لم يصل، فقال له‏:‏ يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم، فقال‏:‏ يا رسول الله أصابتني جنابة، ولا ماء معي قال‏:‏ عليك بالصعيد، فإنه يكفيك، ولأن التيمم إنما شرع لاستدراك مصلحة الوقت، وهذا قدر مشترك فيه بين الصورتين‏.‏

وقال فيه أيضا‏:‏ يتيمم الحاضر إذا فقد الماء، وخشي فوات الوقت قبل الوصول إليه‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وكذلك المسجون، وقال صاحب الطراز‏:‏ في المسألتين ثلاثة أقوال‏:‏ أحدهما ما مر، والثاني‏:‏ الإعادة بعد الوقت إذا وجد الماء، لمالك أيضا والشافعي، والثالث‏:‏ أن الحاضر يطلب الماء، وإن طلعت الشمس إلا أن يكون له عذر، لمالك أيضا في الموازية، وهو قول أبي حنيفة إنه لا يتيمم حاضر إلا مريض، أو محبوس‏.‏ قال ابن شاس‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ الذي رجع إليه مالك أن يعيد أبدا‏.‏

وجه المشهور عموم آية التيمم، وفي الصحيحين أنه عليه السلام لقيه رجل، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه، ويده، ثم رد عليه السلام زاد أبو داود قال عليه السلام‏:‏ إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر، فإذا شرع التيمم في الحضر لتحصيل مصلحة رد السلام، فالصلاة أولى، وفي أبي داود قال أبو ذر‏:‏ انتقلت بأهلي إلى الربذة، فكنت أجنب، وأعدم الماء الخمسة الأيام، والستة، فأعلمت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال‏:‏ الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج‏.‏‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ وأبو ذر انتقل للإقامة‏.‏

حجة المنع أن آية التيمم وردت في المسافر، والمريض، وليس هذا منهما، والقياس عليهما مدفوع بفارق غلبة عدم الماء في السفر، وعجز المريض عن استعماله، ولأن الوضوء عبادة شطرت في التيمم، فوجب أن يكون السفر شرطا فيها قياسا على تشطير الصلاة بالقصر‏.‏

فرعان مرتبان‏:‏

الأول‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ إذا قلنا يتيمم، فآخر الوقت‏.‏

الثاني‏:‏ إذا منعنا التيمم في الحضر، فهل يشترط في السفر مسافة القصر حكى الباجي عن ابن حبيب أن كل من قال بقصره على السفر رأى ذلك، وقال القاضي‏:‏ يجوز في أقل ما يصدق عليه سفر‏.‏

‏(‏الفصل الثالث‏)‏ في المتيمم به

في الجواهر‏:‏ هو التراب، والحصباء، والسباخ، والجص، والنورة غير مطبوختين، وجميع أجزاء الأرض إذا لم تغيرها الصنعة بطبخ، أو نحوه سواء وجد التراب، أو لم يوجد خلافا ش، وابن شعبان منا في قصر التيمم على التراب، وخصص ابن حبيب الأجزاء بعدم التراب، ويجوز بالملح عند مالك، وابن القاسم، ولا يجوز عن أشهب، وقال اللخمي‏:‏ في الملح ثلاثة أقوال‏:‏ المنع لمالك لأنه طعام، والجواز لابن القصار لأنه أجزاء من الأرض احترقت، والتفرقة بين المعدني فيجوز لأنه أجزاء الأرض احترقت بحر الشمس، وبين المصنوع لمخالطته لغيره بالصنعة، وقال ابن يونس‏:‏ قال مالك - رحمه الله تعالى -‏:‏ لا يتيمم على الرخام كالزمرد، والياقوت، ولا الشب، والزاج، والزرنيخ، والكحل، والكبريت لأنها عقاقير‏.‏

قال سليمان في السليمانية‏:‏ إن أدركه الوقت في أرضها، ولا يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت أجزأه قال‏:‏ وقال مالك‏:‏ يتيمم على المغرة لأنه تراب منه الأحمر، والأصفر، والأسود يريد إذا كان غير مطبوخ‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ المتولد في الأرض منه ما يشاكلها كالزرنيخ، والكحل، والمغرة فيجوز به التيمم، وقال أبو بكر الوقاد‏:‏ لا يتيمم، وأما المنطرقة كالفضة، ونحوها، فلا يتيمم به قولا واحدا، وأما النخيل، والحلفاء، والحشيش، ونحوه إذا لم يقدر على قلعه قال الأبهري، وابن القصار‏:‏ يتيمم به فيضرب بيده الأرض عليها، وأجازه الوقاد في الخشب إذا علا وجه الأرض كما في الغابات لأنه ضرورة، ولأنه لو حلف لا يبرك على الأرض، فبرك على هذه المواضع حنث، ولو برك على جذع، وشبهه لم يحنث‏.‏

فتلخص أن المتيمم به ثلاثة أقسام‏:‏ جائز اتفاقا، وهو التراب الطاهر، وغير جائز اتفاقا، وهو المعادن، والتراب النجس، ومختلف فيه، وهو ما عدا ذلك‏.‏

حجتنا على الشافعي رضي الله عنه قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏فتيمموا صعيدا طيبا‏)‏ قال ثعلب، وجماعة من أئمة اللغة كأبي عبيدة، والأصمعي‏:‏ الصعيد وجه الأرض من الصعود، وهو العلو، ومنه سميت الفتاة صعدة لعلوها، فكل ما صعد على وجه الأرض، فهو صعيد يجوز التيمم به إلا ما خصه الدليل‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏)‏ وصيغة منه تقتضي التبعيض، والتبعيض إنما يتصور في التراب لا في الحجر، وكذلك لفظ المسح لا يتصور إلا مع التراب إذ لا يصدق مسحت يدي بالمنديل إلا وفي اليد شيء يزال‏.‏

قلنا‏:‏ السؤالان جليلان، والجواب عن الأول من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن من كما تكون للتبعيض تكون لابتداء الغاية كقولنا‏:‏ بعت من هاهنا إلى هاهنا، وابتداء الفعل في التيمم هو المسح من الحجر‏.‏

الثاني‏:‏ أنها تكون لبيان الجنس كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏)‏ فيكون المراد امسحوا من هذا الجنس الطهور الطاهر، فإنه المراد عندنا بالطيب احترازا من النجس‏.‏

الثالث‏:‏ أن الحجر لو سحق لم يصح التيمم به مع إمكان التبعيض فيكون ظاهر اللفظ عندكم متروكا فيسقط الاستدلال‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ الغالب على الحجر وسائر أنواع الأرض إذا مرت عليها اليدان أن يتعلق بهما ما يغبرهما، فصح المسح لذلك، وأما الحجر الذي دلك مرارا، أو غسل، وهو بين الغسل فنادر، والخطاب مبني على الغالب‏.‏

وأما الطيب، فليس المنبت خلافا له، حيث استدل بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه‏)‏ لأن الطيب في اللغة هو الملائم للطباع المستحسن اللائق بالسياق يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات‏)‏ وليس المراد المنبتات بل البعيدات من الدناءات الشرعية، وقوله عليه السلام‏:‏ من تصدق بكسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا‏.‏ المراد الحلال لأنه المناسب للسياق في الإنفاق، وقوله‏:‏ ‏(‏والبلد الطيب‏)‏ إنما حمل على المنبت؛ لأن السياق في الزراعة، والسياق فيما نحن فيه في الطهارات، فوجب أن يكون المراد بالطيب الطاهر؛ لأن المناسب للسياق التطهر، وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وبعثت للأحمر، والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى‏.‏ الحديث، وأما قوله عليه السلام في بعض طرقه‏:‏ وترابها طهورا‏.‏ فلا حجة فيه للشافعي؛ لأن الأرض مشتملة على التراب، وغيره، والقاعدة الأصولية أن تخصيص بعض أنواع العام بالذكر لا يقتضي تخصيصه‏.‏ نعم يدل على شرفه، ونحن نقول به‏.‏

تنبيه‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قوله في الكتاب سئل عن الحصا، والجبل يكون عليه، وهو لا يجد ترابا أيتيمم عليه قال‏:‏ نعم ليس المراد أن عدم التراب شرط بل وقع ذلك اتفاق في السؤال‏.‏

فروع أربعة‏:‏

الأول‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا وجد الطين، وعدم التراب وضع يديه عليه، ويجففه ما استطاع، ويتيمم به خلافا ش في قوله‏:‏ الطين لا يسمى صعيدا، وهو ممنوع؛ لأن الطين تراب، وماء، والماء أفضل من التراب، والأفضل لا يوجب قصورا في المفضول‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا تيمم على موضع نجس أعاد في الوقت قال‏:‏ وكان مالك يقول‏:‏ من توضأ بماء غير طاهر أعاد في الوقت، وكذلك هذا عندي، وقال القاضي في الإشراف عن ابن عبد الحكم، والأبهري‏:‏ لا يجزيه، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ونقض أبو حنيفة أصله في أن الشمس تطهر‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قال أبو الفرج‏:‏ أظن أن ابن القاسم رأى أن النجاسة لما لم تظهر عليه كان كالماء المشكوك فيه، فلا ينجسه إلا ما غيره كالماء قال‏:‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن التيمم لا يجب إيصال التراب فيه إلى البشرة إذ لو تيمم على الحجر الصلد أجزأه، وإنما الواجب قصد الأرض، وضربها باليد، والمرتفع من التراب النجس إلى الأعضاء لم يحصل به خلل في طهارة الحدث، وإنما هو حامل لنجاسة لم يتعمدها فيعيد في الوقت على قاعدة إزالة النجاسة، أو لأن الغبار ينتقل مع الريح الجارية على هذا المكان، والتيمم إنما يقع على أعلى المنتقل الطاهر، ولما كان المذهب في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره أنه نجس احتاج الأصحاب هاهنا إلى الفرق بينه وبين التراب الذي لم يتغير‏.‏

فقال أبو الفرج‏:‏ الماء ينقل المحدث إلى كمال الطهارة، فاشترط فيه ما لم يشترط في التراب الذي لا ينقل إلى كمال الطهارة، وقال غيره‏:‏ الماء يتوصل إلى نجاسته بالحواس بخلاف التراب، فإن المطلوب فيه الاجتهاد، فإذا أخطأ، فلا شيء عليه؛ لأن المنتقل إليه من التراب لا يقطع بطهارته، وإنما يمكن فيه ذلك، فنقض الظن بالعلم متجه، وأما نقض الظن بالظن فلا، كالمجتهد في الكعبة إذا أخطأ في اجتهاده حيث يؤمر بالاجتهاد، ولو أمكنه العلم بالكعبة أعاد أبدا قال ابن حبيب، وأصبغ‏:‏ هذا إذا لم يعلم نجاسته، فإن علم أعاد أبدا، ووجه عدم الإجزاء قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فتيمموا صعيدا طيبا‏)‏ والطيب هاهنا الطاهر على ما تقدم، وهذا ليس بطاهر، ولأن الطهارة لا تحصل بالنجاسة‏.‏

‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ولو تغير بالنجاسة لم يجزه وفاقا‏.‏

فرع مرتب‏:‏ إذا منعنا التيمم من التراب المذكور، فهل نكرهه بالتراب الذي تيمم به مدة لأجل طهارة الحدث كما في الماء، فلابن القاسم في النوادر لا بأس به، وهو مذهب الشافعي، والفرق بينه، وبين الماء المستعمل أن المستعمل من التراب هو ما علق باليدين أما ما بقي، فهو كالماء الباقي في الإناء، فإنه طاهر إجماعا، وإنما الخلاف في الساقط الذي بقي من الأعضاء‏.‏

الثالث‏:‏ في الجلاب‏:‏ لا يتيمم على لبد، ولا حصير، وإن كان فيهما غبار خلافا ح‏.‏

لنا‏:‏ أنها ليست بصعيد، فلا يجزئ‏.‏

الرابع‏:‏ في الجواهر‏:‏ من لم يجد ماء، ولا ما يتيمم به كالمصلوب، والخائف من النزول عن الدابة، والمريض لا يجد من يناوله ذلك، فأربعة أقوال‏:‏

يصلي، ويقضي إذا وجد ماء، أو ترابا لابن القاسم في العتبية، وعبد الملك، ومطرف، وابن عبد الحكم، والشافعي، ولا صلاة، ولا قضاء لمالك، وابن نافع، ويقضي، ولا يصلي في الحال لأصبغ، وأبي حنيفة، ويصلي، ولا يقضي لأشهب‏.‏

فوجه الصلاة في الحال ما في الصحيحين أنه عليه السلام أرسل أناسا في طلب قلادة عائشة رضي الله عنها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، ولم يكن إذا ذاك تيمم، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت آية التيمم، ولم ينكر عليهم، فكان شرعا عاما حتى يرد رافعه‏.‏

ووجه القول بعدم الصلاة في الحال قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا يقبل الله صلاة بغير طهور، وما لا يقبل لا يشرع فعله، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجنب، ولم يعلم أن الجنب يتيمم، فلم يصل، وهو في الصحيحين‏.‏

ووجه القول بعدم الإعادة أنه فعل ما أمر به، فلا إعادة إلا بأمر جديد والأصل عدم ذلك، قياسا على المريض والمسافر يصليان كما أمرا، ولا يعيدان، ولأنه عليه السلام لم يأمر من ذهب للقلادة بإعادة‏.‏

وقال ابن بشير‏:‏ منشأ الخلاف هل الطهارة شرط في الوجوب، أو في الأداء، فمن رأى أنها شرط في الوجوب لم يوجب الصلاة في الحال، وهذا مشكل منه - رحمه الله تعالى -، فإن الأمة مجمعة على أن الوجوب ليس مشروطا بالطهارة، وإلا لكان لكل مكلف أن يقول أنا لا تجب علي الصلاة حتى أتطهر، وأنا لا أتطهر، فلا يجب علي شيء؛ لأن وجوب الطهارة تبع لوجوب الصلاة، فإذا سقط أحدهما سقط الآخر؛ لأن القاعدة أن كل ما هو شرط في الوجوب كالحول مع الزكاة، والإقامة مع الجمعة، والصوم لا يتحقق الوجوب حالة عدمه، ولا يجب على المكلف تحصيله، فإن كان مراده أمرا آخر، فلعله يكون مستقيما‏.‏